كتبه/ مصطفى دياب
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد؛
فإن
التاريخ زاخر بالأحداث العظيمة التي تفخر بها الأمم، كما أنه غني كذلك
بالرجال الأفذاذ الذين يمثلون عظمة الإسلام، وكيف أنه ربّى هؤلاء الأعلام
الذين جمعوا الفضائل وتنزهوا عن الرذائل، فهم خير أمة أخرجت للناس (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ) (آل عمران:110).
هم
ذلك الجيل الذي تفتخر البشرية بنسبته إليها، الجيل الذي ضرب أروع الأمثلة
في الجهاد والبذل والدعوة والشجاعة والكرم والمروءة والصبر، الجيل الذي
تربى بالإسلام، فقاموا بدين الله -عز وجل-، وقام بهم دين الله -عز وجل-،
وكان كل صحابي منهم أنموذجًا فريدًا، فظهرت فيهم عظمة الإسلام وما يفعله في النفوس البشرية، وكيف لا يكون كذلك وهو منهج الله الذي ارتضاه لعباده؟!
فبأمثال مصعب بن عمير وحمزة بن عبد المطلب وعبد الله بن رواحة والبراء بن
مالك... وغيرهم كثير، بأمثال هؤلاء يمكِّن الله لعباده المؤمنين وينزل نصره
على المخلصين.
وفي دراسة سيرهم فوائد عظيمة فمنها: تتبع آثارهم؛ ليقتدي بهم من خلفهم، فيقرأ سيرهم من لم يعاين صورهم، ويشاهد محاسنهم من لم يعاصرهم، فيعرف مناصبهم ومراتبهم، فيجد في الطلب؛ ليلحق بالركب، ويتمسك بهديهم.
فما
أحوجنا في هذه الأزمنة أن نُعطر مجالسنا ونُشرف أسماعنا وأبصارنا وقلوبنا
بسيرتهم عسى أن تنهض منا الهمم للتأسي بهم أو نُرزق محبتهم في الدنيا فنسعد
بصحبتهم في الآخرة، فالمرء مع من أحب يوم القيامة.
وفي هذا العدد نلتقي مع صفحات مشرقة من سيرة الصحابي الجليل.
"أبو عبيدة بن الجراح":
كان
أبو عبيدة بن الجراح وضيء الوجه، بهي الطلعة، نحيل الجسم، طويل القامة،
خفيف العارضين، ترتاح العين لمرآه وتأنس النفس للقياه، ويطمئن إليه الفؤاد.
وكان إلى ذلك رقيق الحاشية، جم التواضع -كثير التواضع-، شديد الحياء، ولكنه كان إذا حزب الأمر -اشتد الأمر- وجدّ الجدّ يغدو كأنه الليث عاديًا، فهو يشبه نصل السيف رونقًا وبهاءً، ويحاكيه -يماثله- حدةً ومضاءً.
ذلكم هو أمين أمة محمد -صلى الله عليه وسلم-
عامر بن محمد بن عبد الله بن الجراح الفهري القرشي، المكنى بأبي عبيدة،
نعته عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما- فقال: "ثلاثة من قريش أصبح الناس
وجوهًا، وأحسنهم أخلاقًا، وأثبتها حياءً، إن حدثوك لم يَكْذبوك -لم يكذبوا عليك- وإن حدثتهم لم يُكذّبوك: أبو بكر الصديق، وعثمان بن عفان، وأبو عبيدة بن الجراح".
عُرف
أبو عبيدة -رضي الله عنه- كقائد فذ، ومع هذه الشهرة التي اكتسبها فقد طغت
عليه شهرة خالد بن الوليد -رضي الله عنه-، وذلك لاتزان أبي عبيدة وهدوئه
وتروِّيه، وحركية خالد وإقدامه، مع اعتراف خالد لأبي عبيدة بالفضل والقدرة والشجاعة والقوة.
لقد اختلفت طبيعة أبي عبيدة عن طبيعة خالد؛ إذ كان خالد كثير الحركة، سريع التنقل، يُحسن المناورة في القتال، ويجيد خداع العدو في الحرب، على حين كان أبو عبيدة ثابتًا في مكانه لا يزحزحه منه جيش كامل، ويتحرك نحو هدفه بهدوء وتخطيط، وإذا تقدم لا يتراجع ولو حاولت دحره فرقة كاملة.
وهذه الطبيعة هي التي أبرزت خالدًا وأعطته شهرته وخاصة لدى الشباب أصحاب العاطفة الجياشة الذين يحبون كثرة الحركة والإقدام في كل الميادين، وخاصة ميدان القتال.
إسلامه:
سمع أبو عبيدة بن الجراح -رضي الله عنه- همسًا يدور في "مكة" بين عدد من سادتها، مضمونه أن محمد بن عبد الله أصبح نبيًّا
وصاحب رسالة، فانطلق عامر بن الجراح -رضي الله عنه- إلى دار أبي بكر
الصديق -رضي الله عنه- فلقيه واستفسر منه في مجلس طويل جمعهما، فبين له
الصديق حقيقة الدعوة وسر الرسالة التي ما زالت
في مهدها، فعدد الذين دخلوا في دين محمد -صلى الله عليه وسلم- ما يزال
قليلاً، وتواعد الرجلان على لقاء محمد -صلى الله عليه وسلم- في اليوم
التالي، وكان الرسول -صلى الله عليه وسلم- لم يدخل دار الأرقم بن أبي الأرقم بعد.
وفي اليوم التالي وجد أبو عبيدة عددًا من الرجال يقصدون مقصده ويطلبون لقاء محمد -صلى الله عليه وسلم-، وقد اتفق الجمع على سرية اللقاء؛ لأن الدعوة ما زالت سرًّا.
خرج
أبو عبيدة -رضي الله عنه- في جنح الظلام ومعه عثمان بن مظعون، وعبيدة بن
الحارث بن عبد المطلب، وعبد الرحمن بن عوف، وأبو سلمة بن عبد الأسد -رضي
الله عنهم- حتى أتوا رسول الله -صلى الله عليه وسلم-.
فعرض
الرسول -صلى الله عليه وسلم- حقيقة دينه السامي ودعوته المباركة، وامتدت
الأيادي المباركة، واشرأبت النفوس الطاهرة، وتاقت الأفئدة وهوت إلى دين
الله، فكان من الفوج الأول الذي نطق الشهادة أمام رسول الله -صلى الله عليه
وسلم- هو أبو عبيدة وأصحابه، وصافحت الأيادي رسول الله -صلى الله عليه
وسلم-، وكل منهم قال: "أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمد رسول الله"،
فكانوا القواعد الأولى التي أقيم عليها صرح الإسلام العظيم.
فاغتبط
الرسول -صلى الله عليه وسلم- وانشرح صدره لانضمام هذه الكوكبة إلى ركب
الإيمان، وانتظامها في رحلة الخير، وبناء الدعوة المباركة، ومضى الرجال كل
إلى غايته، يقصد داره، ويستعيد حديث محمد -صلى الله عليه وسلم- عن الدين
المبارك الجديد.
ولم يخف الخبر عن أهل أبي عبيدة -رضي الله عنه- وتعارض إسلامه مع رغبة أبيه، وبدأت بين أمين الأمة وأهله حربًا
لا هوادة فيها، وحاولوا أن يثنوه عن إسلامه، وقاوموه مقاومة عنيفة فلم
يتراجع، ولم يتردد، ولم يساوره شك فيما فعل، ووصل الأمر إلى حد المقاطعة،
فلم يعر بالاً ولم يأبه، واشتد أهله عليه، ولم يتركوا شيئًا
يثنيه عن الإسلام إلا وقد فعلوه، إلا أنه تماسك ولم يضعف، فقد كان أبو
عبيدة قوي الإيمان، مخلص القلب، صفي النفس، فلم يتأثر بتهديد أبيه، وبوعيد
أهله.
وحاولت قريش زيادة الضغط؛ ليرجع أبو عبيدة عن الدخول في دين محمد -صلى الله عليه وسلم-، فجعل الأشراف منهم يعيرون عبد الله بن الجراح والده، يقولون له: إن ولدك أبا عبيدة دخل في دين الإسلام، وخالف أمرك، واتبع محمدًا في دينه الذي يخالف دين آبائنا وأجدادنا، فماذا أنت صانع به؟!
صبر واتباع:
ومنذ
أن أسلم أبو عبيدة خلع كل ما ورثه من مخلفات الجاهلية، ومع طبعه الهادئ
وصمته الدائم لم يلفت النظر إلى ما أصابه من أذى في سبيل إسلامه، فقد كان
يُنفذ تعاليم الإسلام بشكل دقيق ويتقيد بأوامر رسول الله -صلى الله عليه
وسلم- بصورة تامة، وكان يتلقى بأدب ويتصرف بحدود ما أمر به، ويُنفق بصمت
ويساعد بهدوء، يكون أول المتطوعين، وأسبق المنفذين، همه الطاعة وحياته
الإسلام، وما عدا ذلك فلا يبالي به.
لذا؛ فقد عاش أبو عبيدة تجربة المسلمين القاسية في "مكة"
منذ بدايتها إلى نهايتها، وعانى مع المسلمين السابقين من عنفها وضراوتها
وآلامها وأحزانها ما لم يعانه أتباع دين على ظهر الأرض، فثبت للابتلاء -الاختبار- وصدق الله ورسوله في كل موقف، لكن محنة أبي عبيدة يوم "بدر" فاقت في عنفها حسبان الحاسبين وتجاوزت خيال المتخيلين.
نتوقف ها هنا ونكمل -إن شاء الله- في العدد القادم.
تحليل وفوائد:
1- صفات مهمة في شخصية الداعي إلى الله:
لقد تميز أبو عبيدة -رضي الله عنه- بالحلم والتواضع، والحياء والرفق واللين، وطلاقة الوجه، وحسن الخلق والصدق، والإقدام والبطولة والشجاعة، والقوة في الحق، والشدة على الباطل.
2- علو الهمة في الدعوة إلى الله:
فهذا الصديق -رضي الله عنه- في اليوم التالي لإسلامه يأتي ومعه عددًا من الرجال يسيرون في جنح الظلام يقصدون النبي -صلى الله عليه وسلم- فأسلموا وكانوا القواعد الأولى التي أقيم عليها صرح الإسلام.
3- مع بداية الالتزام الحق يبدأ البلاء:
فهي سنة كونية ماضية، قال ورقة بن نوفل للنبي -صلى الله عليه وسلم-: "يَا لَيْتَنِي فِيهَا جَذَعًا إِذْ يُخْرِجُكَ قَوْمُكَ" فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: (أَوَمُخْرِجِيَّ هُمْ؟!) قَالَ: "نَعَمْ لَمْ يَأْتِ رَجُلٌ قَطُّ بِمِثْلِ مَا جِئْتَ بِهِ إِلاَّ عُودِيَ" (متفق عليه).
وأنت -أخي الحبيب- مع أولى خطوات الالتزام الصادق ربما تجد حربًا
لا هوادة فيها من أعز وأقرب الناس إليك بدعوى أنهم يريدون لك المصلحة،
يحاربون لحيتك، يحاربون أفكارك وما تعلمته من دين الله، يحاربون ثوبك الذي
تلبسه، يحاربون أصدقاءك الجدد الملتزمين، يقطعون لك الكتب أو يحرقونها في محاولة يائسة -إن شاء الله-
لردك عن طريق الالتزام، قد يوفرون لك المتعة والفسحة والمصيف والقنوات
والوصلات والمال مقابل ترك الالتزام، فماذا أنت صانع؟ وما هو قرارك؟.
أخي اجعل قدوتك في ذلك أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم-، إن أبا عبيدة أمام هذا كله لم يساوره شك في دينه، ولم يتردد ولم يعر بالاً ولم يأبه بهم ولم يضعف ولم يترك الالتزام بدين الله ولا العمل من أجل هذا الدين.
ثبتني الله وإياك على دينه، وصلي اللهم على محمد وعلى آله وصحبه وسلم.