"جدلية الاختفاء و التجلي"
عبد المجيد الانتصار
1 – تمهيد للمسألة:
بدءا من الأطروحات التي كتبها كارل ماركس (1818-1883) حول فيورباخ (1804-1872)، والتي ترجع إلى سنة 1846، طرح الارتباط العضوي للمعرفة والإنتاجات النظرية بالحياة الاجتماعية والممارسة العملية؛ إذ تؤكد تلك الأطروحات أن التصورات الفكرية والنظريات الصوفية نفسها، ومهما كانت مجردة، فإن معناها ودلالاتها ومغزاها يتأسس على الممارسة، و يتجذر فيها. ونقرأ في الأطروحة الثامنة، مثلا، ما يلي: "إن الحياة الاجتماعية عملية بصورة جوهرية. وإن جميع الأسرار التي تنحرف بالنظرية في اتجاه الصوفية تجد حلها العقلاني في الممارسة الإنسانية، وفي فهم هذه الممارسة"(1).
لا يخرج التفكير النظري، إذن، عن كونه نشاطا إنسانيا. ولا يمكن النظر إليه منفصلا عن النشاط العملي والممارسة الاجتماعية للإنسان. وبهذا المعنى يمكن التفكير في ارتباط نمط فكري محدد، وهو الفلسفة، بممارسة عملية معينة، وهي السياسة. فها هنا نجد "فكرا" و"ممارسة" لم ينفكا عن التفاعل والارتباط:
ـ تاريخيا: إذ سار تاريخ الخطاب الفلسفي سيرا سياسيا، بتفاعله مع تحولات وصراعات المجتمع والتاريخ، ولأن خطاب الفلسفة كان تدخلا سياسيا في تلك الصراعات..
ـ بنيويا: إذ شكل الموضوع السياسي- الأخلاقي عنصرا بارزا في بنية ونظام الخطاب الفلسفي.
لنفكر هنا في بعض الحالات:
كان أفلاطون (347-429 ق.م)، في آن واحد، الفيلسوف الذي يتأمل "المثل"، والذي يناصر سياسة "الجمهورية" ويرسم نظامها السياسي، والتربوي والأخلاقي..
ولم يؤلف كنط (1724-1804) كتاب نقد العقل الخالص خالصا وبعيدا عن الحياة السياسية. وحتى وإن كان قد اعتاد ملازمة بيته، فقد أعجب إعجابا شديدا بالثورة الفرنسية..
والفيلسوف هيجل (1770-1831) نفسه، فيلسوف المطلق وصاحب فينومينولوجيا الروح، كان أيضا صاحب كتاب مبادئ فلسفة الحق، وصاحب كتابات سياسية.. بل كان محررا لأول دستور ليبرالي في ألمانيا، حسب ف.شاتلي(2).
وترتبط الكتابات الفلسفية المادية الجدلية لـماركس وأنجلز (1820-1895)، بالكتابات السياسية: البيان الشيوعي، ورسائل أخرى.
لعل هذه الحالات، وغيرها، هي ما جعل "ف.شاتلي" يؤكد بأن "تاريخا للفلسفة هو بالضرورة تاريخ سياسي"(3). إنه تاريخ تفاعل بين مقال الفلسفة ومجال السياسة: قولا وممارسة، وهو تفاعل ترتفع فيه القضايا والممارسات السياسية إلى مستوى التصور الفلسفي، أو تتحول الأطروحات النظرية داخله كي تتجسد في قول سياسي، وفي نشاط عملي- اجتماعي. وقد أصبح لفظ "الممارسة" مرافقا للتفكير النظري، و ضمنه الفلسفي، في الكتابات المعاصرة؛ إذ نجد عند "لوي ألتوسير L.Althusser" حديثا قويا عن الفلسفة كنشاط سياسي اجتماعي، فهي عنده صراع طبقي على المستوى النظري(4).
إن هذا التفاعل ذاته، بين الفلسفة والسياسة، قد عبر عن نفسه في حديث م.فوكو عن "نظام الخطاب"، وعن الآليات التي تكونه وتؤسسه وتحكم بنيته، وذلك بصياغته للزوج: حقيقة-سلطة. أليست الحقيقة "فلسفة"..؟ أليست السلطة "سياسة"..؟
2 – "النظري" و"السياسي" في الثقافة العربية: حالات عامة.
يحيلنا التمهيد السابق إلى خطوة منهجية تفرض نفسها على القارئ للإنتاج النظري الفكري الإنساني، و ضمنه الإنتاج العربي الإسلامي، أيضا. إذ يصبح اعتبار الارتباط بين ماهو نظري و ما هو سياسي اعتبارا منهجيا ضروريا. وقد لا نغالي إذا جعلنا هذا الاعتبار أكثر ضرورة حينما يتعلق الأمر بالنظر إلى خطاب الفلسفة في الثقافة العربية، بل في خطاب هذه الثقافة جملة.
إن التأكيد - منهجيا- على تفاعل "الفكري" و "السياسي" في ثقافتنا يصبح مشروعا، إذا لاحظنا- فعليا وتاريخيا- هذا التفاعل على مستوى بعض أشكال التعبير الثقافي العربي الإسلامي، في المرحلة "الوسيطية-الكلاسيكية"(5).
لنفكر في هذه الحالات:
أ – ارتبط الخطاب الديني، في الجزيرة العربية، بالطموح إلى التوحيد: توحيد العقيدة، وتوحيد اللغة، وتوحيد نظام الدنيا أيضا: اجتماعيا وسياسيا واقتصاديا.. إنه توحيد شمولي عام، وكان التوحيد السياسي عنصرا رئيسيا داخله، وذلك ما تحقق بتكون مركز سياسي للدولة آنذاك، في "يثرب".. بل سيرتبط الشرع بالسياسة في مراحل التطور الاجتماعي، في بلاد الإسلام، إذ سيتخذ الشرع أرضية لكل عمل سياسي، وسيلتحمان بشكل يجعل الدين والسلطان توأمين، بتعبير الغزالي(6).
ب – أما في حالة الصراع الفكري الكلامي (علم الكلام)، فقد يكون من قبيل القول المكرور أن نؤكد على ارتباط ذلك الصراع النظري في خطاب المتكلمين بالصراع السياسي، بدءا من مشكلة الخلافة، وداخل التصارع الاجتماعي على العهد الأموي، ثم العباسي. فلم تنفصل المناقشات الكلامية عن المواقف السياسية للفرق الإسلامية: لقد ارتبط "كلام" كل فرقة بـسياسة دولة. يقول الشهرستاني: "..ولكل فرقة دولة عاونتهم وصولة طاوعتهم"(7). وقد ظل ذلك الارتباط بين الكلام والسياسة بارزا، وذلك رغم بلوغ علم الكلام المرحلة التي أصبح فيها قولا ميتافيزيقيا- عقديا: مرحلة المعتزلة والأشاعرة(
. ولعل تواجد قضايا "الجبر" و"الاختيار" و"العدل" و"الإمامة" يعفي عن بذل جهد نظري لإثبات وجود مقال وممارسة السياسة داخل الخطاب الكلامي.
ج – وفي الفقه، أيضا، يتداخل الاجتهاد والنظر مع التشريع العملي والممارسة السياسية. بل إننا قد نجد في الخطاب الفقهي نموذجا ممتازا لذلك التداخل؛ إذ يهتم الفقه، كاجتهاد ونظر، باستنباط الأحكام في مجال التشريع والقانون والأخلاق. إن ملازمة الفقهاء للسلطة، ومسايرة السلطان للفقهاء، والعمل بأقوالهم وفتاويهم...، إن ذلك هو ما يشير إلى الارتباط الذي نحن بصدده: لقد كفر الفقهاء متكلمي الاعتزال بأمر من السلطان (المتوكل)، كما أحرق السلطان "علي بن يوسف بن تاشفين" كتاب الغزالي "إحياء علوم الدين" بإيعاز من الفقهاء(9). و كان المشروع الفقهي للماوردي مشروع سياسة في دولة بني العباس، على عهد "القائم" و"القادر"(10).
د– وبالمثل، ارتبط التاريخ و الكتابة التاريخية، في الثقافة العربية، بالسلطة السياسية. فكثيرا ما كان القيام بالتأريخ، لهذه الدولة أو تلك، أمرا من الخليفة. نذكر، مثلا، ارتباط "الزهري"، مؤسس مدرسة المغازي، بالخليفتين الأمويين عبد الملك وابنه هشام. وكانت للمؤرخ الواقدي علاقة ارتباط خاص بالخليفة العباسي المأمون؛ فقد مارس الواقدي القضاء ببغداد استجابة لنداء المأمون، بل يتحدث ابن خلكان عن علاقة حميمية بينهما، أي بين الخليفة والمؤرخ. فيقول: ".. كان يكرم جنابه ويبالغ في رعايته. وستظل الكتابة التاريخية في تطورها، مع المسعودي والطبري وابن خلدون، في عناق مع السلطة السياسية، تخدمها وتحتمي بها(11).
هـ – و في الأدب العربي، في مختلف مراحله، نجد ارتباطا وثيقا بين خطاب الأديب، من جهة، وبين بلاط أو سلطة الخليفة، من جهة ثانية. نفكر، مثلا، في ارتباط أبي فراس والمتنبي بالدولة الحمدانية في حلب (سيف الدولة). أما ابن زيدون فلم يكن، فقط، شاعرا يغني حبه لـ"ولادة"، و إنما كان يمارس دور الوزارة داخل سلطة دولة ابن جهور، في قرطبة. واجتمع في المعتمد بن عباد الأدب والسلطة السياسية، فقد كان ملكا (وهنا السلطة). كما كان شاعرا (وهنا الأدب).
و تجدر الإشارة إلى أنه لا ينبغي أن نفهم أن العلاقة بين المثقف (الأديب، المؤرخ، الفقيه، المتكلم، والفيلسوف، كما سنرى..)، من جهة، وبين السلطة، من جهة أخرى، كانت دائما علاقة إيجابية، إذ يخدم المثقف السلطة، وترعى السلطة المثقف.. بل إن هذه العلاقة تتخذ شكلا سلبيا كذلك؛ إذ تناقض المعرفة، التي يمثلها الفقيه أو الأديب أو الفيلسوف، مع السلطة السياسية، فيكون التمرد والرفض والنقد من طرف حامل المعرفة، ويكون النفي والإحراق والتكفير من طرف السلطة.
تطرح هذه المعطيات افتراضا منهجيا يفتح أمامنا موضوعا خصبا، نعبر عنه بهذه الصيغة: الحقيقة والسلطة في الثقافة العربية. وإن إنجاز دراسات متخصصة في الموضوع، على مستوى مختلف أنماط التعبير الثقافي، في التجربة العربية الإسلامية، يسمح بتكامل النظر إلى تلك العلاقة الرابطة بين ما هو "نظري" وما هو "سياسي" في ثقافتنا(12).
في هذا الإطار من التفكير، نسجل بعض الملاحظات في الموضوع على مستوى النمط الفكري الفلسفي:
3 – النظري والسياسي في الفلسفة العربية الإسلامية:
إن البحث المعاصر في التراث الفلسفي، العربي الإسلامي، قد كشف وأبرز أهمية طرح المسألة السياسية كخطوة منهجية في قراءة ذلك التراث. وذلك لأن تاريخ الفلسفة في الإسلام لا ينفصل عن الممارسة السياسية في المجتمع العربي الإسلامي. فما لاحظناه، سابقا، حول ترابط الفلسفة والسياسة، بصورة عامة، يتأكد هنا أيضا في تاريخ الفلسفة العربية الإسلامية كنمط فكري خاص ومتميز.
إن تفاعل الحقيقة (الفلسفة) والسلطة (السياسة) في فلسفة الإسلام يفرض نفسه بإلحاح على قارئها والباحث فيها، سواء في مرحلة تبلورها ونشأتها، أو في مراحل ما بعد النشأة: مراحل تطورها وانتعاشها، أو مراحل تراجعها وانتكاسها.
لقد نشأت الفلسفة في الثقافة العربية الإسلامية، وامتلكت مشروعيتها أحيانا، وكانت موضوع تهيم ورفض في أحيان أخرى،.. وكانت هذه الصيرورة لفلسفة العرب المسلمين صيرورة "فلسفة" و"سياسة": صيرورة عانق فيها الفيلسوف (حامل الحقيقة) السلطة السياسية، وعانق فيها رجل السياسة (ممثل السلطة) الحقيقة الفلسفية. كما كانت صيرورة عانت فيها "الحقيقة الفلسفية" من عنف "سلطة السياسة".
إن هذا الافتراض العام، حول ترابط ما هو فلسفي بما هو سياسي، في الثقافة العربية الإسلامية، هو ما يدير ويوجه مجموعة من الحالات سنشير إليها، ونحن نفكر في مراحل من تاريخ الفلسفة الإسلامية:
3-1- ترجمة الفلسفة وسياسة الدولة (المامون وأرسطو):
ارتبطت نشأة الفلسفة في الإسلام بمسألة الترجمة: ترجمة فلسفة اليونان وعلومها إلى العربية. وحتى إذا اعتبرنا، مع ابن "النديم" أن تلك الترجمة نتجت عن "حلم" رآه الخليفة العباسي المأمون(13)، فإن الحلم، حسب التحليل النفسي، هو تعبير غير مباشر ولا شعوري عن تطلعات ورغبات مكتوبة في لا وعي صاحبها (الحالم) في يقظته. فكيف التقى المأمون بـ"أرسطو في الحلم المذكور؟؟
أ – إن حديث المأمون عن أرسطو، في الحلم، كان حديث مدح وإعجاب وسرور: "وكأنني بين يديه قد ملئت له هيبة"، ثم "سررت به..".
وما يقوله المأمون عن أرسطو هو قول عن الفلسفة؛ فأرسطو يلخص ما قبله، وتساوي معرفته معرفة الفلسفة اليونانية بأكملها. لذا كان إعجاب المأمون (السلطة) بأرسطو إعجابا بالحقيقة الفلسفية.
ب – يوازي هذا الإعجاب، الذي يصدر عن رجل السياسة (المأمون) تجاه الفلسفة (أرسطو)، حاجة ملحة لدى السياسي للمزيد من الحديث الفلسفي. إذ نجد في الحلم أن المأمون يطالب أرسطو بالاستمرار في خطابه، وتزويده بالنظر الفلسفي: قلت: زدني.
ج – تتميز الحقيقة الفلسفية، في حلم زعيم سياسة الدولة العباسية، بأنها شيء ثمين، يرتفع إلى مستوى الذهب. ومن هنا يكون ضروريا الحفاظ على هذا الذهب، أي الفلسفة، التي يمثلها أرسطو.
د – إن اللجوء إلى أرسطو (الفلسفة)، في الحلم، كان من أجل سياسة اليقظة: توحيد الجمهور والمذاهب والملل: "عليك بالتوحيد".. تلك هي وصية أرسطو للمألوف، وصية الفيلسوف لـ"السياسي".
إن المأمون خليفة يقود دولة، ويسوس أمة، في فترة تاريخية معينة. لذا فإن حلمه هو حلم تلك الدولة (العباسية). وإن الأسئلة التي طرحها في حلمه هي أسئلة فرضتها تلك الفترة التاريخية (عهد العباسيين، وخاصة خلافة المأمون والمعتصم والواثق، في أواخر القرن الثاني والنصف الأول من القرن الثالث للهجرة).
هاهنا، إذن، تجد سياسة الواقع نفسها في فلسفة الحلم، مما يجسد اللقاء بين "سلطة سياسية" و"حقيقة فلسفية". إنه نوع من "الحلم الذي يتحقق"، إذ سيعمل المأمون على تأسيس بيت الحكمة سنة 215هـ، وهو تأسيس شرعي من السلطة السياسية لخطاب الحقيقة الفلسفية.
وإذا أضفنا إلى ذلك أن الكندي (185-260هـ)، باعتباره أول فيلسوف في الإسلام، كان قد حظي برعاية خليفتين عباسيين، وهما المأمون والمعتصم، وإذا عرفنا أن الكندي - أيضا- كان قد دخل في صراع فكري شديد، مع الفقهاء والمتعصبين للنص الديني، في دفاعه عن مشروعية خطاب الحكمة والعقل، فإن الصورة تكتمل لدينا، وهي صورة ارتباط الفلسفة والسياسة، في المراحل الأولى لنشأة الفلسفة في المجتمع العربي الإسلامي.
يمكننا الآن أن نستنتج أن صورة هذا الارتباط قد اتخذت مظهرين اثنين:
ـ أحدهما إيجابي: إذ أبرزت سياسة المأمون خطاب الفلسفة، فتأسس وتجذر هذا الخطاب مع الكندي.
ـ ثانيهما سلبي: إذ عملت السياسة، مع المتوكل (232-247هـ)، على تكفير الفلسفة والقضاء على خطابها. وهنا تعادي السلطة السياسية، وبتوظيف السلطة الفقهية، الفكر الفلسفي الناشئ.
3-2- الفلسفة والسياسة في المدينة الفاضلة (الفارابي):
إن نظرة سريعة لكتاب "الفارابي"، المسمى "آراء أهل المدينة الفاضلة"، تكفي لاعتباره نموذجا ممتازا لارتباط "الفلسفة" و"السياسة". فهذا الكتاب يتضمن خطابا في الميتافيزيقا، ويتعلق الأمر بالحديث عن واجب الوجود، وعن "تراتب الموجودات"، وعن "فيض العقول"، وعن "المادة والصورة"، وعن "اتصال النفس بالعقل الفعال". ويتضمن الكتاب نفسه، من جهة ثانية، خطابا في السياسية، ويتعلق الأمر هنا بالحديث عن "ضرورة الرئيس للمدينة"، وعن "خصال الرئيس" وعن "العدل"..
إن كتاب "آراء أهل المدينة الفاضلة" هو كتاب "فلسفة" و"سياسية". وعلى الرغم من أن فصول الحديث الميتافيزيقي تفوق، من حيث عددها البالغ سبعة وعشرين فصلا، فصول الحديث السياسي العشرة، فإن عنوان الكتاب، ومنذ البدء، يجعل منه كتاب "سياسة"، ويحدده كخطاب عن "مدينة فاضلة"؛ مما يسمح بافتراض أن القسم الميتافيزيقي في الكتاب (نظرية الفيض) مدخل ومقدمة للقسم السياسي (المدينة الفاضلة). ونمثل لذلك بما يلي:
أ – يطرح الفارابي ضرورة واجب الوجود - الله- لكي يتحقق وجود الموجودات ونظامها. كما يطرح ضرورة الرئيس لكي يتحقق نظام المدينة، ولكي تكون فاضلة. ونقرأ في هذا الطرح تماثل مفهومين أساسيين: مفهوم داخل النظرية الفيضية الفلسفة (واجب الوجود)، ومفهوم سياسي (الرئيس).
ب – كما يتماثل هذا المفهوم السياسي (الرئيس) مع مفهوم فلسفي آخر، وهو "العقل". فإذا كان "العقل" مصدر النظام والتوازن في "قوى النفس"، وإذا كان العقل ضروريا للجسم، فإن الرئيس - أيضا- ضروري للمدينة:
ـ واجب الوجود = مصدر الكون وعلة نظامه.
ـ العقل = مصدر توازن الجسم.
ـ الرئيس = مصدر نظام المدينة.
ج – يضاف إلى هذا التماثل المفاهيمي، الفلسفة-السياسية، اشتراط الفارابي ضرورة وجود الفلسفة في رئاسة المدينة: إن الرئيس الأول، خليفة الله في الأرض، يتميز بمجموعة من الصفات، ومن بينها: صفة الفيلسوف، الذي يملك القدرة للاتصال بالعقل الفعال، فيستمد المعارف العقلية بعقله. ولعل ذلك ما دعا المستشرق "ديبور" إلى أن يستنتج من الصفات التي أحصاها الفارابي للرئيس الأول، في المدينة الفاضلة، أن هذا الرئيس هو "أفلاطون في ثوب النبي محمد"(14).
د – أما الرؤساء من أجل تعديل شريعة الرئيس الأول، حسب متطلبات أزمنتهم. يقول الفارابي "يقدر- الرئيس الثاني- ما لم يقدره الأول، وليس هذا فقط، بل وله أيضا أن يغير كثيرا مما شرعه الأول، فيقدره غير ذلك التقدير، إن علم أن ذلك هو الأصلح لزمانه".
هـ – هاهنا يكون ضروريا أن يتوفر شرط "التعقل"، أو "التفلسف"، في سياسة المدينة. بل إن هذه الضرورة ستكون أقوى وأبرز عندما يطرح الفارابي مبدأ "الرئاسة الجماعية" للمدينة، إذا لم توجد شروط الرئاسة في شخص واحد. ويتضح ذلك في قول الفارابي: "إذا لم يوجد إنسان واحد اجتمعت فيه هذه الشرائط، ولكن وجد اثنان : أحدهما حكيم، والثاني فيه الشرائط الباقية، كانا رئيسين في هذه المدينة الفاضلة، فإذا تفرقت هذه في جماعة، وكانت الحكمة في واحد، والشروط الأخرى في آخرين، وكانوا متلائمين، كانوا هم الرؤساء الأفاضل"(16).
..لعلها إشارات ممتازة تنطق بترابط الفلسفة والسياسة في خطاب أبي نصر الفارابي، الذي كانت حياته تجمع بين ممارسة الفلسفة والمنطق، تأليفا وشرحا، وبين وجوده في علاقة مع السلطة السياسية. فقد انتقل إلى دمشق، ثم اتصل بسيف الدولة الحمداني صاحب حلب، فضمه إلى علماء بلاطه واصطحبه في حملته على دمشق"(17).
قد يمكننا الآن أن نثبت مركزية ارتباط الفلسفي والسياسي في حالة الفارابي. وقد لاحظ ذلك المستشرق الألماني "بول كراوس، إذ يقول: "إن النظرة السياسية تهيمن على فكر الفارابي لدرجة أن باقي الدراسات الفلسفية، بما فيها الإلهيات والأخلاق، وحتى الطبيعة والمنطق، تتبع تلك النظرة - السياسية- وتخضع لها"(18). ومع هنري لاووست نرى بأن الجزء الرئيسي والمحوري في فلسفة الفارابي، وأكثر فروعها إحالة، هو سياسته"(19).
3-3- نقد "الفلسفة" و"فضح السياسة الباطنية"(الغزالي):
نجد هنا، في حالة الغزالي (450-505هـ) مظهرا آخر للمسألة موضوع الحديث، مسألة ارتباط "الفلسفة" و"السياسة"، وهو مظهر سلبي يتجلى في رفض الفلسفة، في نقدها، وفي محاصرتها. يدل ذلك على افتراض يمكن صياغته كما يلي: لقد ارتبطت "الفلسفة" بـ"السياسة" سواء في مراحل تشريعها والدفاع عنها (حالة الفارابي، مثلا)، أو في مراحل رفضها (حالة الغزالي، مثلا):
لقد ألف أبو حامد الغزالي، من ضمن ما ألفه، كتابين رئيسيين، وهما تهافت الفلاسفة وفضائح الباطنية. وبينما يتجه التهافت إلى تكفير الفلسفة ونقد الفلاسفة المسلمين، فإن الفضائح يتجه إلى تكفير وفضح الحركة السياسية الشيعية الباطنية؛ أي أن المؤلف الأول مؤلف نقدي في حقل الفلسفة، وأن الثاني مؤلف نقدي في مجال السياسة. وقد نقرأ الارتباط الوثيق بين المؤلفين بأنه ذو مظهر خارجي، من جهة، وذو مظهر داخلي، من جهة ثانية، لنوضح ذلك:
أ – ارتباط خارجي:
إن الكتابين معا تم تأليفهما في الفترة الأولى من حياة الغزالي الفكرية، قبل مغادرته بغداد بدعوى الحج. وتتميز تلك الفترة بالارتباط المتين بـ"الدولة العباسية السلجوقية: "فقد تلقى دروسه الشافعية والأشعرية في مدرسة تلك الدولة، في نيسابور. كما ارتبط الغزالي بالوزير السلجوقي نظام الملك، ثم أصبح أستاذا مشرفا على التدريس في المدرسة النظامية ببغداد. وكانت هذه السلطة السياسية، التي احتضنت الغزالي، تعاني من أزمة عميقة، وتواجه خطرا سياسيا تجسد في تصاعد الحركة الشيعية المتطرفة: الباطنية. فقد تم اغتيال نظام الملك سنة 484هـ، ثم فخر الملك سنة 501هـ(20).
داخل هذا التصارع السياسي السلجوقي- الباطني سيمثل الغزالي المدافع المخلص عن الخلافة السلجوقية، وسيكون الخصم المعارض للشيعة الباطنية، فكتب كتابه المذكور، والذي نجد عنوانه الكامل كما يلي: "فضائح الباطنية وفضائل المستظهرية". وقد كتبه بأمر من الخليفة السلجوقي المستظهر بالله. يقول الغزالي: ".. أما بعد: فإني لم أزل مدة المقام بمدينة السلام متشوفا إلى أن أخدم المواقف المقدسة النبوية الإمامية المستظهرية ضاعف الله جلالها.. حتى خرجت الأوامر الشريفة بالإشارة إلى الخادم (أي المؤلف = الغزالي) في تصنيف كتاب الرد على الباطنية مشتمل على الكشف عن بدعهم وضلالاتهم.. فرأيت الامتثال حتما.. وانتدبت تصنيف هذا الكتاب، وسميته: فضائح الباطنية وفضائل المستظهرية"(21).
وفي الفترة نفسها، فترة الارتباط بالدولة السلجوقية ومحاربة الباطنية، سيؤلف الغزالي كتاب تهافت الفلاسفة، ردا ورفضا ومحاربة للفلسفة. وهذا الارتباط الزمني لتصنيف الكتابين هو ما يجمع بين نقد الغزالي للفلسفة، من جهة، وبين نضاله ضد السياسة الباطنية، من جهة أخرى. فكما كان التهافت درءا للقول الفلسفي، فقد كان كتاب الفضائح درءا للحركة السياسية الباطنية. وجند الغزالي نفسه للمشروعين في فترة واحدة، فترة ارتباطه ومناصرته للسلاجقة.
ب – ارتباط داخلي:
ويتضح هذا الارتباط بين نقد الغزالي للفلسفة في التهافت، وبين رده على الحركة السياسية الباطنية في الفضائح، إذا نظرنا في البنية الداخلية للكتابين كذلك. لنوضح بما يلي:
ـ يحدد الغزالي في فضائح الباطنية أقاويل الحركة الشيعية، لكي يناقشهم في أخذهم بها، وفي مصدر تمسكهم واعتقادهم بها. وهكذا يرجع الغزالي معتقدات الباطنية إلى هذه المبادئ:
ـ إنكار القيامة.
ـ قدم العالم.
ـ إنكار بعث الأجساد.
ـ إنكار الجنة والنار.
ثم يلاحظ الغزالي أن هذه المعتقدات الباطنية هي نفسها المعتقدات التي يكفر فيها الفلاسفة المسلمين، في كتاب تهافت الفلاسفة(22).
كما يعرض الغزالي معتقد الحركة الباطنية، وهي حركة سياسية، في الإلهيات. فهم يقولون بوجود إلهين قديمين زمانيا، أحدهما "سابق = تام"، والآخر "تالي = ناقص". وقد خلق السابق العالم بواسطة التالي. ويوصف الأول بأنه عقل، وأما الثاني فيوصف بأنه نفس.
هاهنا يمكن تسجيل ملاحظتين:
الأولى: إن هذه المعتقدات والمفاهيم الباطنية، كما يعرضها أبو حامد، تطابق تصورات الفلاسفة في قولهم بقديمين من حيث الزمان: أحدهما علة، والثاني معلول. ويجسد ذلك التصور الميتافيزيقي عند ابن سينا خاصة.
الثانية: يرجع الغزالي آراء الباطنية السابقة إلى كفر وضلال طوائف أخرى، وعلى رأسها: الفلاسفة. ويبرز أنه اشتغل بالرد على تلك المعتقدات الإلهية في مصنفاته النظرية حول فن الكلام. وأما في فضائح الباطنية فيهتم بالرد على الاعتقاد السياسي الباطني حول دعوى: الإمام المعصوم(23).
ـ ويقدم الغزالي معتقد الباطنية في النبوة، ثم يقرر أنه معتقد مأخوذ من مذاهب الفلاسفة، وبالتالي فإن الرد على الباطنية يتطلب استعمال ما رد به الغزالي على الفلاسفة. يقول: "وهذه المذاهب (الباطنية)، أيضا، مستخرجة من مذاهب الفلاسفة في النبوات، مع تحريف وتغيير. ولسنا نخوض في الرد عليهم.. والقدر الذي ننكره قد استقصينا وجه الرد فيه على الفلاسفة"(24).
ـ ثم يعتبر الغزالي عمل الفلاسفة هو الأساس العقائدي النظري للحركة الباطنية، إذ يرى أن طائفة من ملاحدة الفلاسفة اعتقدوا أن الشرائع نواميس مؤلفة، وأن المعجزات مخاريق مزخرفة.. وهذه الطائفة هم الذين لفقوا لهم (أي الباطنية) الشبه وزينوا لهم بطريق التمويه الحجج، وسووها على شروط الجدل وحدود المنطق(25).
ـ وأخيرا يجمع الغزالي في نهاية المنقذ من الضلال بين الفلاسفة والباطنية- التعليمية، كخصمين عمل على ذمهما معا في ذلك الكتاب. يقول: ".. وهذا ما أردته في ذم الفلسفة والتعليم وآفاتهما"(26).
نخلص من حالة الغزالي إلى أن اشتغاله بالفلسفة كان اشتغالا سياسيا: فقد ارتبط نقده للفلسفة بنقده للسياسة الشيعية الباطنية. وهكذا كان تأليف كتاب تهافت الفلاسفة مقدمة لتأليف كتاب فضائح الباطنية. ولم يكن، نتيجة لذلك، رد الغزالي على الفارابي وابن سينا غاية في ذاته، بل كان من أجل الرد على الحركة الباطنية. أي أن الغزالي استهدف الرد على الخطر السياسي الشيعي، الذي يهدد السلاجقة، في تأليفه للكتابين معا، وذلك برده على الأساس الفلسفي الميتافيزيقي للحركة الباطنية في التهافت، ثم برده على موقفها السياسي في "الفضائح".
3-4-حالات من الغرب الإسلامي:
إن التفكير في حالة الفلسفة في الغرب الإسلامي سيسمح بالقول: إن تاريخ القول الفلسفي في الإسلام تاريخ سياسي. فكما كان الأمر بالمشرق فإن خطاب الفلسفة ارتبط بالسياسة في الغرب الإسلامي. وفي العناصر الآتية بيان ذلك:
أ – عرفت الفلسفة، حين نشأتها في الأندلس، نوعا من العناية من الخلفاء؛ إذ إن عناية ملوك الطوائف بالطب والتنجيم كانت طريقا غير مباشر للاعتناء بالفلسفة، وبالتالي لنشأتها. يقول أحمد أمين: ".. ولما تقسمت الدولة الأندلسية إلى طوائف، كانت ملوك كل مدينة تزهى بالعلماء، وتقربهم، وتعتقد أنهم أحسن دعاية لهم.. كذلك كان الخلفاء في الأندلس في حاجة شديدة إلى الطب والتنجيم، فقربوا الأطباء والمنجمين. وكان الطب والتنجيم المدخل إلى الفلسفة"(27). كما اهتم الحكَم، وهو أمير أموي، بنقل الكتب الفلسفية التي ترجمت عن اليونانية(28). وفي الاتجاه نفسه يمكن تسجيل اهتمام خلفاء بني أمية الأندلسيين بجلب الكتب الأدبية والفلسفية(29).
ب – وتجسد حالة ابن باجة، الذي توفي سنة 533هـ، وهو رائد التأليف الفلسفي في الغرب الإسلامي، نموذجا لارتباط الفلسفة والسياسية، ولاندماج الفيلسوف بروح عصره وتفاعله معها: لقد كان ابن باجة وزيرا لحاكم سرقسطة وجليسا له، ثم شغل منصب الوزارة لصهر علي بن يوسف بن تاشفين(30). وعلى الرغم من انتعاش هذا الفيلسوف داخل السياسة المرابطية، في فترة قصيرة، فإن الظاهرة التي سادت في عصره - القرن 5هـ- هي محاصرة الفلسفة وعزل الفيلسوف. وقد تولى القيام بمهمة هذا العزل وتلك المحاصرة الفقهاء والسلطة السياسية على السواء.. ويكفي أن نذكر أن ابن باجة قتل مسموما، وأنه عكس عزلة الفيلسوف داخل المدينة الإسلامية في رسالة بعنوان: "تدبير المتوحد".
ج – يعكس أحد فلاسفة الغرب الإسلامي، وهو ابن طفيل (1110-1185م)، واقع انحسار القول الفلسفي، إذ يقول: ".. ولكنه (القول الفلسفي) أعدم من الكبريت الأحمر، ولا سيما في هذا الصقع الذي نحن فيه (الأندلس)، لأنه من الغرابة في حد لا يظفر باليسير منه إلا الفرد بعد الفرد، ومن ظفر بشيء منه لم يكلم الناس به إلا رمزا، فإن الملة الحنيفية والشريعة المحمدية قد منعت من الخوض فيه، وحذرت عنه"(31). غير أن ابن طفيل، إذ يخبرنا بهذا الوضع، فهو سيعاصر بداية انتعاش الخطاب الفلسفي في عهد السلطة الموحدية: كان ابن طفيل فيلسوفا وطبيبا للدولة الموحدية، كما كان صلة الوصل المباشرة في لقاء فلسفي- سياسي، بين الفيلسوف ابن رشد (520-595هـ) وبين الخليفة الموحدي أبي يعقوب يوسف، من أجل ترجمة كتب أرسطو وإصلاح أخطاء الشراح والمفسرين.
د – وفي حالة ابن رشد نلاحظ علاقة إيجابية بينه، كحامل لخطاب الفلسفة، وبين الدولة الموحدية كسلطة سياسية. يقول فيلسوف قرطبة، في نهاية حديثه عن حضوره مع ابن طفيل أمام السلطان الموحدي المذكور: ".. وعند خروجي من مجلسه منحني مالا وخلعة سنية ودابة للركوب"(32). ويتجه ابن رشد بالخطاب إلى أبي يعقوب يوسف، مباشرة، في بداية حديثه عن مسألة العلم الإلهي، في فصل المقال، إذ يقول: "أدام الله عزتكم، وأبقى بركتكم، وحجب عيون النوائب عنكم، لما فقهتم، بجودة ذهنكم، وكريم طبعكم، كثيرا ممن يتعاطى هذه العلوم.."(33).
يذكرنا هذا الارتباط بين ابن رشد وأبي يعقوب يوسف، بذلك الارتباط الذي لاحظناه بين المأمون وأرسطو. ولا تنفي هذا الارتباط الإيجابي والقوي بين الفلسفة، في شخص ابن رشد، وبين السياسة، في شخص السلطان الموحدي، لا تنفيه تلك اللحظة التي نفي فيها الفيلسوف إلى مدينة أليسانة، والتي عرفت إحراق كتبه، وسائر كتب الفلسفة. فلم يكن هذا الأمر إلا استثناء، وكان إرضاء من السلطان المنصور أبي يوسف يعقوب للفقهاء وعامة الناس، إذ سرعان ما أصدر السلطان عفوه على ابن رشد، وذلك بعد أن هدأت العامة(34).
هـ – مقابل هذا الارتباط الإيجابي، الذي جسده تشجيع السلطة السياسية للفلسفة في الغرب الإسلامي، سيتكون ارتباط من نوع آخر، بعد عصر ابن رشد، وهو ارتباط سلبي. وذلك ما يتمثل في اتجاه الفقيه ابن الصلاح الشهرزوري (توفي 643هـ) إلى السلطان من أجل محاصرة الفلسفة. فقد أفتى هذا الفقيه في أمر الاشتغال بالفلسفة، فقال:
"لقد تمت الشريعة وعلومها وخاض في بحر الحقائق والدقائق علماؤها حيث لا منطق ولا فلسفة ولا فلاسفة. ومن زعم أنه يشتغل مع نفسه بالمنطق والفلسفة لفائدة يزعمها، فقد خدعه الشيطان ومكر به. فالواجب على السلطان أن يدفع عن المسلمين شر هؤلاء المياشيم (المشائيم)، ويخرجهم عن المدارس، ويبعدهم، ويعاقب على الاشتغال بفنهم، ويعرض من ظهر منه اعتقاد عقائد الفلاسفة على السيف أو الإسلام لتخمد نارهم وتمحى آثارها وآثارهم، يسر الله ذلك وعجله. ومن أوجب هذا الواجب عزل من كان مدرس مدرسة من أهل الفلسفة والتصنيف فيها والإقراء لها، ثم سجنه وإلزامه منزله.."(35).
هاهنا، إذن، يعانق الفقه السلطاني السياسي، فيتم تكفير الفلسفة فقهيا، ثم عزلها وسجنها وردها بالسيف سياسيا. مما يضفي على الارتباط بين الحقيقة الفلسفية والسلطة السياسية، في هذه الحالة، طابعا سياسيا.
4 – على سبيل الختم:
نختم هذه المقالة باستنتاجين تسمح بهما الفقرات التحليلية السابقة، وهما كما يلي:
الأول: وهو استنتاج منهجي، إذ تفيد المعطيات السابقة أن قراءة تاريخ الفلسفة في الإسلام تتخذ، في جانب كبير منها، طابع القراءة السياسية. فإذا كان مسار الفلسفة الإسلامية قد تميز بتفاعله مع نظر وعمل السلطان السياسي، مشرقا ومغربا، فإن ذلك يقتضي ضرورة، من الناحية المنهجية، الكشف عن هذا البعد السياسي لتاريخ الخطاب الفلسفي الإسلامي.
الثاني: وهو استنتاج إشكالي: إذ تفيد الفقرات السابقة أن المهمة التي يطرحها واقع تاريخ الفلسفة الإسلامية على الفيلسوف هي مهمة إثبات مشروعية خطاب الحكمة. فقد كان تجلي وانتعاش الفلسفة في الإسلام، أحيانا(36)، وانحسارها واختفاؤها، أحيانا أخرى(37)، كان ذلك يحدث بفعل الشرط السياسي، على الرغم من اتخاذه صبغة فقهية في بعض الحالات، ومن هنا سوف يكون انشغال فلاسفة الإسلام، وبعض الفقهاء كذلك، بمسألة العلاقة التوفيقية بين الفلسفة (الحكمة) والدين (الشريعة)، أو بمسألة علاقة الانفصال والتوازي بينهما، انشغالا هادفا إلى إثبات مشروعية الخطاب الفلسفي أو عدم مشروعيته..، مما يتطلب تأسيس كل قراءة لجدلية الفلسفة والسياسة والدين، في المجتمع والثقافة العربيين الإسلاميين، على إشكالية مشروعية الفلسفة.
(1) كارل ماركس، أطروحات حول فيورباخ، ضمن الإيديولوجيا الألمانية، ترجمة فؤاد أيوب، ص651-654.
(2) ف.شاتلي، الوضع الراهن لمسألة تاريخ الفلسفة، ترجمة جمال الدين العلوي، مجلة آفاق، العدد 2، السلسلة الجدية، ص40.
(3) نفسه، ص41.
- (4) L.Althusser : Réponse à John Lewis, Maspero, 1973, p 41.
(5) يلح البحث المعاصر في التراث الفكري على أهمية المسألة السياسية، كشرط منهجي في قراءة الفكر العربي الإسلامي. يقول، مثلا، محمد عابد الجابري: ".. والواقع أن أي تحليل للفكر العربي الإسلامي، سواء كان من منظور بنيوي أو من منظور تاريخاني، سيظل ناقصا وستكون نتائجه مضللة إذا لم يأخذ في حسابه دور السياسة في توجيه هذا الفكر وتحديد مساره ومنعرجاته.. ذلك لأن الإسلام، التاريخي الواقعي، كان في آن واحد، دينا ودولة. وبما أن الفكر الذي كان حاضرا في الصراع الإيديولوجي العام كان فكرا دينيا، أو على الأقل في علاقة مباشرة مع الدين، فإنه كان أيضا ولهذا السبب في علاقة مباشرة مع السياسة.."، انظر: تكوين العقل العربي، دار الطليعة، بيروت، 1984، ص146.
(6) الغزالي، الاقتصاد في الاعتقاد، دار الكتب العلمية، بيروت، 1983، ص148.
(7) الشهرستاني، الملل والنحل، تحقيق سيد كيلاني، دار المعرفة، بيروت ط1 ، الجزء الأول، ص43.
(
لقد أشرنا إلى ذلك في درس حول صراع المعتزلة والأشاعرة، في عمل مدرسي بعنوان: "الفلسفة والفكر الإسلامي: ملاحظات وتطبيقات أولية حول مسألة النص، منشورات الدراسة، مطبعة الأندلس، الدار البيضاء، 1985، ص62.
(9) انظر: الناصري، الاستقصا، مطبعة دار الكتاب، البيضاء، ج2، ص74-75.
(10) انظر: سعيد بنسعيد، دولة الخلافة – دراسة في التفكير السياسي عند الماوردي، دار النشر المغربية، البيضاء، بدون تاريخ، وخصوصا: الفصل الأول.
(11) علي أومليل، الخطاب التاريخي، معهد الإنماء العربي، بيروت، ص18-23.
(12) من المهم جدا التفكير في عدة أزواج، داخل الثقافة العربية الإسلامية، من قبيل الزوج "فلسفة-سياسة"، مثل: منطق–أخلاق، أدب-إيديولوجيا، عقيدة-تاريخ.. وبكلمة واحدة: حقيقة-سلطة.
(13) انظر نص الحلم في الفهرست لابن النديم، دار المعرفة، بيروت، ص339.
(14) وردت هذه العبارة في الفصل الذي أفرده الدكتور محمد عابد الجابري لدراسته عن الفلسفة السياسية والدينية عند الفارابي، ضمن كتاب نحن والتراث، دار الطليعة، بيروت، 1980.
(16) الفارابي، آراء أهل المدينة الفاضلة، ص130.
(17) نفسه، من تقديم المحقق، ص12.
(18) عن عبد السلام بنعبد العالي، الفلسفة والسياسة عند الفارابي.
(19) نفسه.
(20)الغزالي: فضائح الباطنية، تحقيق عبد الرحمان بدوي، دار الكتب الثقافية، الكويت، صفحات ح، ط، ي
(21) نفسه، صفحات: 2-5.
(22) نفسه، ص47. وأيضا: تهافت الفلاسفة.
(23) فضائح الباطنية، ص40.
(24) نفسه، ص42.
(25) نفسه، ص36.
(26) الغزالي، المنقذ من الضلال، دار العلم للجميع، ص101.
(27) أحمد أمين، ظهر الإسلام، دار الكتاب العربي، بيروت، ط5، 1969، ج3، ص233.
(28) نفسه، ص233.
(29) نفسه، ص233.
(30) نفسه، ص239.
(31) ابن طفيل، حي بن يقظان، تحقيق فاروق سعد، دار الآفاق الجديدة، بيروت، 1974، ص111.
(32) عن أحمد أمين، ظهر الإسلام، ص246، نفس المعطيات المذكورة.
(33) ابن رشد، فصل المقال، تحقيق محمد عمارة، دار المعارف بمصر، 1972، ص71.
(34) أحمد أمين، ظهر الإسلام، ص248 (مذكور سابقا).
(35) ابن الصلاح، الفتاوي، عن توفيق الطويل، قصة الصراع بين الدين والفلسفة.
(36) كما لاحظنا في عهد المأمون المؤسس لـ"بيت الحكمة"، وفي لحظة الفارابي، ثم ابن رشد في الغرب الإسلامي..
(37) كما لاحظنا في حالات: الغزالي، ابن الصلاح..