صوم الأجوفين
د. حسام الدين السامرائي
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين محمد بن عبدالله الهاشمي القرشي الأمين وعلى آله وأصحابه وأتباعه إلى يوم الدين.. أما بعد.
فلا شك أن الصيام عبادة عظيمة غايتها تحصيل التقوى كما أشار المولى عز وجل في محكم التنزيل ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ﴾ [سورة البقرة 183]، فالامتناع إذا عن الطعام أو الشراب أو الجماع ما هي إلا أدوات تعين المسلم على الوصول إلى الغاية وليست هي المراد بعينه وهذا ما أكده النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث المتفق عليه عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " من لم يدع قول الزور والعمل به فليس لله حاجة ٌ في أن يدع طعامه وشرابه "
ولو توقفنا مع تعريف علمائنا للصيام شرعا لوجدنا أنه الإمساك عن الأكل، والشرب، والجماع، من الصبح إلى المغرب، مع النية (القاموس الفقهي 1/218)، وتأمل معي أن المفطرات جميعها من جهة جارحتين الأولى الفم والثانية الفرج.
وتعال لنطوف مع أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم التي تشير إلى هذين العضوين – وأقصد الفم والفرج- وأهمية اشتراكهما جميعا في معنى تحصيل التقوى، فعن عبد الله بن مسعود قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم استحيوا من الله حق الحياء قال قلنا: يا رسول الله إنا نستحيي والحمد لله قال: " ليس ذاك ولكن الاستحياء من الله حق الحياء أن تحفظ الرأس وما وعى والبطن وما حوى ولتذكر الموت والبلى ومن أراد الآخرة ترك زينة الدنيا فمن فعل ذلك فقد استحيا من الله حق الحياء" رواه الترمذي بسند حسنه الألباني، فجمع النبي صلى الله عليه وسلم بين الرأس وما وعى وأهمه الفم والبطن وما حوى وأهمه الفرج.
يؤكد ذلك ما جاء في الصحيحين عن سهل بن سعد عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " من يضمن لي ما بين لحييه وما بين رجليه أضمن له الجنة " فالجنة دار المتقين الصالحين، ونزل النبيين والصديقين، ومستقر الشهداء والعلماء العاملين، والسبيل إلى ضمان الدخول فيها هو ضمان تحصين هذين العضوين الفم والفرج.
ومثل هذا ثبت في الصحيح عن عطاء بن يسار أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال من وقاه الله شر اثنين ولج الجنة فقال رجل يا رسول الله ألا تخبرنا فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم فأعاد رسول الله صلى الله عليه وسلم مقالته فقال الرجل ألا تخبرنا يا رسول الله ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم مثل ذلك أيضا ثم ذهب الرجل يقول مثل مقالته فأسكته رجل إلى جنبه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من وقاه الله شر اثنين ولج الجنة ما بين لحييه وما بين رجليه " والحديث صحيح كما في السلسلة برقم 510 وقد وردت ألفاظ أخرى ضعيفة عن مضمون صيانه هذين العضوين الفم والفرج فقد أخرج البيهقي في الشعب بسند ضعيف من حديث أنس رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من وقي شر لقلقه وقبقبه وذبذبه فقد وقي الشر كله أما (لقلقه) فاللسان (وقبقبه) فالفم (وذبذبه) فالفرج ".
فالجنة معدة لمن أدام التحكم في هذين الجارحتين فعن أبي موسى الأشعري قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من حفظ ما بين فقميه ورجليه دخل الجنة " أخرجه أحمد بسند صحيح (صحيح الجامع برقم6202)، والنار والعذاب لمن أطلق العنان لهما يسرحان كيف أرادا وهذا ما نفهمه مما رواه البخاري في صحيحه عن ابن عباس قال: مر النبي صلى الله عليه وسلم بحائط من حيطان المدينة أو مكة فسمع صوت إنسانين يعذبان في قبورهما فقال النبي صلى الله عليه و سلم (يعذبان وما يعذبان في كبير). ثم قال (بلى كان أحدهما لا يستتر من بوله وكان الآخر يمشي بالنميمة). ثم دعا بجريدة فكسرها كسرتين فوضع على كل قبر منهما كسرة فقيل له يا رسول الله لم فعلت هذا؟ قال (لعله أن يخفف عنهما ما لم تيبسا. أو إلى أن ييبسا).
ولو نظرنا في الآيات القرآنية وجمعها لهذين العضوين نتوقف عند تقديم الفم على الفرج تارة كقوله سبحانه في سورة المؤمنون: ﴿ قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ * إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ *فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ ﴾ [سورة المؤمنون 1-7] فنرى أن فلاح المؤمن يتحقق بالإعراض عن اللغو (التحكم بالفم) وبالمحافظة على الفرج (التحكم بالفرج)، وربما قدم جارحة الفرج على جارحة الفم فقال عز وجل: ﴿ وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلًا * وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا فَلَا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنْصُورًا * وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولًا * وَأَوْفُوا الْكَيْلَ إِذَا كِلْتُمْ وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا * وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا ﴾ [سورة الإسراء 32-36] فجاء بلفظ ولا تقربوا الزنا (جارحة الفرج) ثم في آخر آية وقوله: ﴿ وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ ﴾ وهو قول اللسان (جارحة الفم).
بعد هذا نستطيع إدراك كنه خلقة الملائكة الذين نزع الله عنهم شهوة هذين الجارحتين (الفم والفرج)، وركبهما في بني البشر ليرتقي من يرتقي منهم إلى منازل الملائكة بل يتفوق عليها كما هو حال النبيين عليهم الصلاة والسلام ومنهم من ينحط في تحقيق شهوته لبطنه وفرجه إلى أسفل سافلين فيكون حطب أهل النار كما في الأدب المفرد للإمام البخاري من حديث أبى هريرة: سئل رسول الله صلى الله عليه و سلم ما أكثر ما يدخل الجنة قال: "تقوى الله وحسن الخلق" قال: وما أكثر ما يدخل النار قال: "الأجوفان الفم والفرج" حديث حسنه الألباني.
وفي الختام.. من أراد النجاة والفلاح والنعيم والجنة.. فالصيام سيحقق له ذلك إذا عرف المسلم كيف يجعل منه محطة للتدريب على التحكم بعضوي السلامة (الفم والفرج).. والله من وراء القصد، والحمد لله رب العالمين.